فصل: تفسير الآيات (15- 18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (15- 18):

{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)}
لما ذكر سبحانه في هذه السورة الإحسان إلى النساء، وإيصال صدقاتهنّ إليهنّ، وميراثهنّ مع الرجال، ذكر التغليظ عليهنّ فيما يأتين به من الفاحشة لئلا يتوهمن أنه يسوغ لهنّ ترك التعفف {واللاتى} جمع التي بحسب المعنى دون اللفظ، وفيه لغات: اللاتي بإثبات التاء، والياء، واللات بحذف الياء، وإبقاء الكسرة لتدل عليها، واللائي بالهمزة والياء، واللاء بكسر الهمزة، وحذف الياء، ويقال في جمع الجمع اللواتي، واللوائي، واللوات، واللواء. والفاحشة: الفعلة القبيحة، وهي مصدر كالعافية، والعاقبة، وقرأ ابن مسعود: {بالفاحشة}. والمراد بها هنا: الزنا خاصة، وإتيانها فعلها، ومباشرتها. والمراد بقوله: {مّن نِّسَائِكُمُ} المسلمات، وكذا {مّنكُمْ} المراد به المسلمون. قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ في البيوت} كان هذا في أول الإسلام، ثم نسخ بقوله تعالى: {الزانية والزانى فاجلدوا} [النور: 2] وذهب بعض أهل العلم إلى أن الحبس المذكور، وكذلك الأذى باقيان مع الجلد، لأنه لا تعارض بينها بل الجمع ممكن. قوله: {أو يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً} هو ما في حديث عبادة الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني قد جعل الله لهنّ سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» الحديث.
قوله: {واللذان يأتيانها مِنكُمْ} اللذان تثنية الذي، وكان القياس أن يقال اللذيان كرحيان. قال سيبويه: حذفت الياء ليفرق بين الأسماء الممكنة، وبين الأسماء المبهمة.
وقال أبو علي: حذفت الياء تخفيفاً. وقرأ ابن كثير: {اللذان} بتشديد النون، وهي لغة قريش، وفيه لغة أخرى، وهي: {اللذا} بحذف النون. وقرأ الباقون بتخفيف النون. قال سيبويه: المعنى، وفيما يتلى عليكم اللذان يأتيانها: أي: الفاحشة منكم ودخلت الفاء في الجواب، لأن في الكلام معنى الشرط. والمراد باللذان هنا: الزاني، والزانية تغليباً، وقيل: الآية الأولى في النساء خاصة محصنات وغير محصنات، والثانية في الرجال خاصة، وجاء بلفظ التثنية لبيان صنفي الرجال من أحصن، ومن لم يحصن، فعقوبة النساء الحبس، وعقوبة الرجال الأذى، واختار هذا النحاس، ورواه عن ابن عباس، ورواه القرطبي، عن مجاهد، وغيره، واستحسنه.
وقال السدي، وقتادة، وغيرهما الآية الأولى في النساء المحصنات، ويدخل معهنّ الرجال المحصنون، والآية الثانية في الرجل والمرأة البكرين، ورجحه الطبري، وضعفه النحاس وقال: تغليب المؤنث على المذكر بعيد.
وقال ابن عطية: إن معنى هذا القول تام إلا أن لفظ الآية يقلق عنه وقيل: كان الإمساك للمرأة الزانية دون الرجل، فخصت المرأة بالذكر في الإمساك، ثم جمعاً في الإيذاء، قال قتادة: كانت المرأة تحبس ويؤذيان جميعاً. واختلف المفسرون في تفسير الأذى، فقيل التوبيخ، والتعيير، وقيل: السبّ، والجفاء من دون تعيير، وقيل: النيل باللسان، والضرب بالنعال، وقد ذهب قوم إلى أن الأذى منسوخ كالحبس.
وقيل: ليس بمنسوخ كما تقدّم في الحبس. قوله: {فَإِن تَابَا} أي: من الفاحشة {وَأَصْلَحَا} العمل فيما بعد {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا} أي: اتركوهما وكفوا عنهما الأذى وهذا كان قبل نزول الحدود على ما تقدّم من الخلاف.
قوله: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله} استئناف لبيان أن التوبة ليست بمقبولة على الاطلاق، كما ينبئ عنه قوله: {تَوَّاباً رَّحِيماً} بل إنما تقبل من البعض دون البعض، كما بينه النظم القرآني ها هنا، فقوله: {إِنَّمَا التوبة} مبتدأ خبره قوله: {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السوء بجهالة}. وقوله: {عَلَى الله} متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار، أو متعلق بمحذوف وقع حالاً عند من يجوز تقديم الحال التي هي ظرف على عاملها المعنوي. وقيل: المعنى: إنما التوبة على فضل الله ورحمته بعباده. وقيل: المعنى: إنما التوبة واجبة على الله، وهذا على مذهب المعتزلة؛ لأنهم يوجبون على الله عز وجل واجبات من جملتها قبول توبة التائبين. وقيل: على هنا بمعنى عند، وقيل: بمعنى من.
وقد اتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين لقوله تعالى: {وَتُوبُواْ إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون} [النور: 31] وذهب الجمهور إلى أنها تصح من ذنب دون ذنب خلافاً للمعتزلة، وقيل: إن قوله: {عَلَى الله} هو الخبر. وقوله: {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ} متعلق بما تعلق به الخبر، أو بمحذوف وقع حالاً. والسوء هنا: العمل السيئ. وقوله: {بِجَهَالَةٍ} متعلق بمحذوف وقع صفة أو حالاً، أي: يعملونها متصفين بالجهالة، أو جاهلين.
وقد حكى القرطبي، عن قتادة أنه قال: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل معصية، فهي بجهالة عمداً كانت أو جهلاً.
وحكى عن الضحاك، ومجاهد أن الجهالة هنا: العمد، وقال عكرمة: أمور الدنيا كلها جهالة، ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد: 36] وقال الزجاج: معناه بجهالة اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية. وقيل معناه: أنهم لا يعلمون كنه العقوبة، ذكره ابن فورك، وضعفه ابن عطية. قوله: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} معناه قبل أن يحضرهم الموت، كما يدل عليه قوله: {حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت} وبه قال أبو مجلز، والضحاك، وعكرمة، وغيرهم، والمراد قيل: المعاينة للملائكة، وغلبة المرء على نفسه، و{من} في قوله: {مِن قَرِيبٍ} للتبعيض، أي: يتوبون بعض زمان قريب، وهو ما عدا وقت حضور الموت. وقيل معناه: قبل المرض، وهو ضعيف، بل باطل لما قدمنا، ولما أخرجه أحمد، والترمذي، وحسنه، وابن ماجه، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» وقيل معناه: يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار.
قوله: {فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ} هو وعد منه سبحانه بأنه يتوب عليهم بعد بيانه أن التوبة لهم مقصورة عليهم.
وقوله: {وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات} تصريح بما فهم من حصر التوبة فيما سبق على من عمل السوء بجهالة، ثم تاب من قريب. قوله: {حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت} {حتى} حرف ابتداء، والجملة المذكورة بعدها غاية لما قبلها، وحضور الموت حضور علاماته، وبلوغ المريض إلى حالة السياق، ومصيره مغلوباً على نفسه مشغولاً بخروجها من بدنه، وهو وقت الغرغرة المذكورة في الحديث السابق، وهي بلوغ روحه حلقومه، قاله الهروي. وقوله: {قَالَ إِنّى تُبْتُ الآن} أي: وقت حضور الموت. قوله: {وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} معطوف على الموصول في قوله: {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات} أي: ليست التوبة لأولئك، ولا للذين يموتون، وهم كفار مع أنه لا توبة لهم رأساً، وإنما ذكروا مبالغة في بيان عدم قبول توبة من حضرهم الموت، وأن وجودها كعدمها.
وقد أخرج البزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، عن ابن عباس في قوله: {واللاتى يَأْتِينَ الفاحشة} قال: كانت المرأة إذا فجرت حبست في البيوت، فإن ماتت ماتت، وإن عاشت عاشت، حتى نزلت الآية في سورة النور: {الزانية والزانى فاجلدوا} [النور: 2] فجعل الله لهنّ سبيلاً. فمن عمل شيئاً جلد وأرسل، وقد روى هذا عنه من وجوه، وأخرج أبو داود في سننه عنه، والبيهقي في قوله: {واللاتى يَأْتِينَ الفاحشة مِن نّسَائِكُمْ} إلى قوله: {سَبِيلاً} ثم جمعهما جميعاً، فقال: {واللذان يأتيانها مِنكُمْ فَئَاذُوهُمَا} ثم نسخ ذلك بآية الجلد، وقد قال بالنسخ جماعة من التابعين، أخرجه أبو داود، والبيهقي، عن مجاهد، وأخرجه عبد بن حميد، وأبو داود في ناسخه، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة.
وأخرجه البيهقي في سننه، عن الحسن.
وأخرجه ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير.
وأخرجه ابن جرير عن السدي.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس في قوله: {واللذان يأتيانها مِنكُمْ} قال: كان الرجل إذا زنا أوذي بالتعيير، وضرب بالنعال، فأنزل الله بعد هذه الآية: {الزانية والزانى فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] فإن كانا محصنين رجما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد: {واللذان يأتيانها مِنكُمْ} قال: الرجلان الفاعلان.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير: {واللذان يأتيانها مِنكُمْ} يعني البكرين.
وأخرج ابن جرير، عن عطاء قال: الرجل، والمرأة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية في قوله: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله} الآية قال: هذه للمؤمنين وفي قوله: {وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات} قال: هذه لأهل النفاق {وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} قال: هذه لأهل الشرك.
وأخرج ابن جرير، عن الربيع مثله.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، عن قتادة قال: اجتمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شيء عصى به، فهو جهالة عمداً كان أو غيره.
وأخرج عبد ابن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن أبي العالية أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: كل ذنب أصابه عبد، فهو جهالة.
وأخرج ابن جرير من طريق الكلبي، عن أبي عن صالح، عن ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله} الآية، قال: من عمل السوء، فهو جاهل من جهالته عمل السوء {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} قال: في الحياة، والصحة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه قال: القريب ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، والبيهقي في الشعب، عن الضحاك قال: كل شيء قبل الموت، فهو قريب له التوبة ما بينه وبين أن يعاين ملك الموت، فإذا تاب حين ينظر إلى ملك الموت، فليس له ذلك.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن قال: القريب: ما لم يغرغر.
وقد وردت أحاديث كثيرة في قبول توبة العبد ما لم يغرغر، ذكرها ابن كثير في تفسيره، ومنها الحديث الذي قدّمنا ذكره.

.تفسير الآيات (19- 22):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)}
هذا متصل بما تقدم من ذكر الزوجات، والمقصود نفي الظلم عنهنّ، والخطاب للأولياء، ومعنى الآية يتضح بمعرفة سبب نزولها، وهو ما أخرجه البخاري، وغيره، عن ابن عباس في قوله: {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً} قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقّ بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاؤوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها، فنزلت. وفي لفظ لأبي داود عنه في هذه الآية: كان الرجل يرث امرأة ذي قرابته، فيعضلها حتى يموت، أو تردّ إليه صداقها. وفي لفظ لابن جرير، وابن أبي حاتم عنه: فإن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت، فيرثها.
وقد روي هذا السبب بألفاظ، فمعنى قوله: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً} أي: لا يحل لكم أن تأخذوهن بطريق الإرث، فتزعمون أنكم أحق بهن من غيركم، وتحبسونهن لأنفسكم {وَلاَ} يحل لكم أن {تَعْضُلُوهُنَّ} عن أن يتزوجن غيركم لتأخذوا ميراثهن إذا متن، أو ليدفعن إليكم صداقهن إذا أذنتم لهن بالنكاح. قال الزهري، وأبو مجلز: كان من عاداتهم إذا مات الرجل، وله زوجة ألقى ابنه من غيرها، أو أقرب عصبته ثوبه على المرأة، فيصير أحق بها من نفسها، ومن أوليائها، فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوجها من غيره، وأخذ صداقها، ولم يعطها شيئاً، وإن شاء عضلها لتفتدي منه بما ورثت من الميت، أو تموت، فيرثها، فنزلت الآية.
وقيل: الخطاب لأزواج النساء إذا حبسوهنّ مع سوء العشرة طمعاً في إرثهنّ، أو يفتدين ببعض مهورهنّ، واختاره ابن عطية. قال: ودليل ذلك قوله: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ} إذا أتت بفاحشة، فليس للوليّ حبسها حتى تذهب بمالها إجماعاً من الأمة، وإنما ذلك للزوج. قال الحسن: إذا زنت البكر، فإنها تجلد مائة وتنفى، وتردّ إلى زوجها ما أخذت منه.
وقال أبو قلابة: إذا زنت امرأة الرجل، فلا بأس أن يضارّها، ويشقّ عليها حتى تفتدى منه.
وقال السدي: إذا فعلن ذلك، فخذوا مهورهنّ.
وقال قوم: الفاحشة البذاءة باللسان، وسوء العشرة قولاً وفعلاً.
وقال مالك، وجماعة من أهل العلم: للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملك.
هذا كله على أن الخطاب في قوله: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} للأزواج، وقد عرفت مما قدمنا في سبب النزول أن الخطاب في قوله: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} لمن خوطب بقوله: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً} فيكون المعنى: ولا يحلّ لكم أن تمنعوهنّ من الزواج: {لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ} أي: ما آتاهنّ من ترثونه: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ} جاز لكم حبسهنّ عن الأزواج، ولا يخفى ما في هذا من التعسف مع عدم جواز حبس من أتت بفاحشة عن أن تتزوج، وتستعفّ من الزنا، وكما أن جعل قوله: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} خطاباً للأولياء فيه هذا التعسف، كذلك جعل قوله: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً} خطاباً للأزواج فيه تعسف ظاهر مع مخالفته لسبب نزول الآية الذي ذكرناه، والأولى أن يقال إن الخطاب في قوله: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ} للمسلمين، أي: لا يحل لكم معاشر المسلمين أن ترثوا النساء كرهاً، كما كانت تفعله الجاهلية، ولا يحلّ لكم معاشر المسلمين أن تعضلوا أزواجكم، أي: تحبسوهن عندكم مع عدم رغوبكم فيهنّ، بل لقصد أن تذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ من المهر يفتدين به من الحبس، والبقاء تحتكم، وفي عقدتكم مع كراهتكم لهنّ: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ} جاز لكم مخالعتهنّ ببعض ما آتيتموهنّ.
قوله: {مُّبَيّنَةٍ} قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص، وحمزة، والكسائي بكسر الياء. وقرأ الباقون بفتحها. وقرأ ابن عباس: {مُّبِيْنَةٍ} بكسر الباء، وسكون الياء من أبان الشيء، فهو مبين. قوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف} أي: بما هو معروف في هذه الشريعة، وبين أهلها من حسن المعاشرة، وهو خطاب للأزواج، أو لما هو أعم، وذلك يختلف باختلاف الأزواج في الغنى، والفقر، والرفاعة، والوضاعة: {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ} لسبب من الأسباب من غير ارتكاب فاحشة، ولا نشوز {فَعَسَى} أن يؤول الأمر إلى ما تحبونه من ذهاب الكراهة، وتبدلها بالمحبة، فيكون في ذلك خير كثير من استدامة الصحبة، وحصول الأولاد، فيكون الجزاء على هذا محذوفاً مدلولاً عليه بعلته، أي: فإن كرهتموهنّ، فاصبروا: {فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً}.
قوله: {وآتيتم إحداهن قنطاراً} قد تقدم بيانه في آل عمران، والمراد به هنا: المال الكثير، فلا تأخذوا منه شيئاً. قيل: هي محكمة، وقيل: هي منسوخة بقوله تعالى في سورة البقرة: {ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألاَّ يقيما حدود الله} [البقرة: 229] والأولى أن الكل محكم، والمراد هنا: غير المختلعة لا يحل لزوجها أن يأخذ مما آتاها شيئاً. قوله: {أَتَأْخُذُونَهُ بهتانا وَإِثْماً مُّبِيناً} الاستفهام للإنكار والتقريع. والجملة مقررة للجملة الأولى المشتملة على النهي.
وقوله: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ} إنكار بعد إنكار مشتمل على العلة التي تقتضي منع الأخذ، وهي: الإفضاء. قال الهروي: وهو إذا كانا في لحاف واحد، جامع، أو لم يجامع، وقال الفراء: الإفضاء، أن يخلو الرجل والمرأة، وإن لم يجامعها.
وقال ابن عباس، ومجاهد، والسدي: الإفضاء في هذه الآية: الجماع وأصل الإفضاء في اللغة: المخالطة، يقال للشيء المختلط فضاً، ويقال القوم فوضى وفضاً، أي: مختلطون لا أمير عليهم.
قوله: {وَأَخَذْنَ مِنكُم ميثاقا غَلِيظاً} معطوف على الجملة التي قبله، أي: والحال أن قد أفضى بعضكم إلى بعض، وقد أخذن منكم ميثاقاً غليظاً، وهو عقد النكاح، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «فإنكم أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله» وقيل: هو قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} [البقرة: 229] وقيل: هو الأولاد.
قوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نكح ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء} نهى عما كانت عليه الجاهلية من نكاح نساء آبائهم إذا ماتوا، وهو شروع في بيان من يحرم نكاحه من النساء ومن لا يحرم. ثم بين سبحانه وجه النهي عنه، فقال: {إِنَّهُ كَانَ فاحشة وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً} هذه الصفات الثلاث تدل على أنه من أشدّ المحرمات وأقبحها، وقد كانت الجاهلية تسميه نكاح المقت. قال ثعلب: سألت ابن الأعرابي، عن نكاح المقت، فقال: هو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا طلقها، أو مات عنها، ويقال لهذا الضيزن، وأصل المقت البغض، من مقته يمقته مقتاً، فهو ممقوت، ومقيت. قوله: {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} هو استثناء منقطع أي: لكن ما قد سلف فاجتنبوه ودعوه، وقيل: إلا بمعنى بعد، أي: بعد ما سلف. وقيل: المعنى: ولا ما سلف، وقيل: هو استثناء متصل من قوله: {مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ} يفيد المبالغة في التحريم بإخراج الكلام مخرج التعلق بالمحال، يعني: إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف، فانكحوا، فلا يحلّ لكم غيره. قوله: {وَسَاء سَبِيلاً} هي جارية مجرى بئس في الذم، والعمل، والمخصوص بالذم محذوف، أي: ساء سبيلاً سبيل ذلك النكاح. وقيل: إنها جارية مجرى سائر الأفعال، وفيها ضمير يعود إلى ما قبلها.
وقد أخرج النسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: لما توفي أبو قيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته، وقد كان لهم ذلك في الجاهلية، فأنزل الله: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً}.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن عكرمة قال: نزلت هذه الآية في كبيشة بنت معمر بن معن بن عاصم من الأوس كانت عند أبي قيس بن الأسلت، فتوفي عنها، فجنح عليها ابنه، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: لا أنا ورثت زوجي، ولا أنا تركت، فأنكح، فنزلت هذه الآية.

وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، عن عبد الرحمن بن البيلماني في قوله: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} قال: نزلت هاتان الآيتان إحداهما في أمر الجاهلية، والأخرى في أمر الإسلام. قال ابن المبارك: {أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً} في الجاهلية، {ولا تعضلوهنّ} في الإسلام.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن أبي مالك في قوله: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} قال: لا تضر بامرأتك لتفتدي منك.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} يعني: أن ينكحن أزواجهن كالعضل في سورة البقرة.
وأخرج ابن جرير، عن ابن زيد قال: كان العضل في قريش بمكة: ينكح الرجل المرأة الشريفة، فلعلها لا توافقه، فيفارقها على ألا تتزوج إلا بإذنه، فيأتي بالشهود، فيكتب ذلك عليها، ويشهد، فإذا خطبها خاطب، فإن أعطته، وأرضته أذن لها، وإلا عضلها، وقد قدمنا عن ابن عباس في بيان السبب ما عرفت.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس في قوله: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ} قال: البغض، والنشوز، فإذا فعلت ذلك، فقد حل له منها الفدية.
وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة نحوه.
وأخرج ابن جرير، عن الضحاك نحوه أيضاً.
وأخرج ابن جرير، عن الحسن قال الفاحشة هنا: الزنا.
وأخرج ابن جرير، عن أبي قلابة، وابن سيرين نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي، في قوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف} قال: خالطوهنّ. قال ابن جرير: صحفه بعض الرواة، وإنما هو: خالقوهنّ.
وأخرج ابن المنذر، عن عكرمة قال: حقها عليك الصحبة الحسنة، والكسوة، والرزق المعروف.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن مقاتل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف} يعني: صحبتهن بالمعروف {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً} فيطلقها، فتتزوج من بعده رجلاً، فيجعل الله له منها ولداً، ويجعل الله في تزويجها خيراً كثيراً.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: الخير الكثير أن يعطف عليها، فترزق ولدها، ويجعل الله في ولدها خيراً كثيراً.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي نحوه.
وأخرج عبد بن حميد، عن الحسن نحو ما قال مقاتل.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ} الآية، قال: إن كرهت امرأتك، وأعجبك غيرها، فطلقت هذه، وتزوجت تلك، فأعط هذه مهرها، وإن كان قنطاراً.
وأخرج سعيد بن منصور، وأبو يعلى. قال السيوطي بسند جيد: أن عمر نهى الناس أن يزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم، فاعترضت له امرأة من قريش فقالت: أما سمعت ما أنزل الله يقول: {وآتيتم إحداهن قنطاراً} فقال: اللهم غفرا كل الناس أفقه من عمر، فركب المنبر، فقال: يا أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهنّ على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحبّ. قال أبو يعلى: وأظنه قال: فمن طابت نفسه، فليفعل. قال ابن كثير: إسناده جيد قويّ، وقد رويت هذه القصة بألفاظ مختلفة، هذا أحدها.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: الإفضاء هو الجماع، ولكن الله يكني.
وأخرج عبد بن حميد، عن مجاهد نحوه.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، عن ابن عباس في قوله: {وَأَخَذْنَ مِنكُم ميثاقا غَلِيظاً} قال: الغليظ: إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة نحوه، وقال: وقد كان ذلك يؤخذ عند عقد النكاح: آلله عليك لتمسكنّ بمعروف، أو لتسرحنّ بإحسان.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، عن ابن أبي مليكة أن ابن عمر: كان إذا نكح قال: أنكحتك على ما أمر الله به، إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان.
وأخرج ابن أبي شيبة، عن أنس بن مالك نحوه.
وأخرج ابن أبي شيبة، عن ابن عباس نحوه.
وأخرج ابن أبي شيبة، عن عكرمة، ومجاهد في قوله: {وَأَخَذْنَ مِنكُم ميثاقا غَلِيظاً} قال: أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: هو قول الرجل ملكت.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال: كلمة النكاح التي تستحلّ بها فروجهن.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والبيهقي في سننه في قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء} أنها نزلت لما أراد ابن أبي قيس بن الأسلت أن يتزوج امرأة أبيه بعد موته.
وأخرج ابن المنذر، عن الضحاك: {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} إلا ما كان في الجاهلية.
وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وأحمد، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عن البراء قال: لقيت خالي، ومعه الراية قلت: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده، فأمرني أن أضرب عنقه، وآخذ ماله.